" من أجل مصر "
قصة من واقع الحياة
تأليف: د. فكرى جلال
تعطلت الحافلة التي تقل الطلاب خلف مدرسة الحرية فأشار سائقها إلى الطلاب بالنزول منها والاتجاه نحو باب المدرسة الرئيسي من الجانب الآخر ، وكان محمود ابن الرابعة عشرة ربيعا احد طلاب السنة النهائية بالمرحلة الإعدادية آخر من ترك الحافة وسار على التل توار بجانب سور المدرسة وإذا به يجد رجلا يرتدى جلباب قديم رث وممزق ، وكان يمسك بيده مفتاحا يفك به بعض المسامير والصواميل التي تثبت أحد أعمدة سور المدرسة الحديدي فتقدم منه محمود ببطيء شديد وقال له : يا عم لماذا تفعل ذلك !! فنظر إليه الرجل وظل جالسا القرفصاء وكانت تبدو عليه علامات الإعياء الشديد وأجاب قائلا: أنني سوف أخذ هذا العمود الحديدي لأبيعه ومن المال سوف أشترى طعاما لأقتات به فأنا مريض ولم أتذوق الطعام منذ نحو يومين ، فقال له محمود : ان كنت تريد طعاما فسأعطيك ساندويتش معي وفتح على عجل حقيبته واخرج منها كيس وأعطاه للرجل فأمسك الرجل الكيس وبدت عليه علامات من الفرحة وشق الكيس واخرج منه الساندويتش وأخذ يقضم منه قضمات متسرعة ليسد جوعه حتى انتهى منه ، واستطرد محمود حديثه قائلا : يا عم إن أردت مثله كل يوم أحضرته لك ، ولكن أعد هذا العمود وثبته فى مكانه ثانية حتى أكون وفيا معك . فنظر إليه الرجل ثم قال : وهل يرضيك أن أبقى هكذا بلا عمل وانتظرك حتى تأتى لي في اليوم التالي لتطعمني ، إن هذا لا يرضيني ، أنني أريد أن أعمل وأطعم نفسي ، فقال له محمود : هل ذهبت إلى أى أحد من أجل البحث عن عمل ولم تجد !! فقال له الرجل : لقد كنت أعمل جنيني وأهتم بحديقة أحد الأغنياء وعندما مرضت طردني من العمل بدون أن يعطيني أى حقوق لى وصرت شريدا وحيدا ، فأنا ليس لى بيت ولا أسرة ترعاني ... فهل يرضيك هذا يا بني ، فقال له محمود : طبعا لا ان ذلك لا يرضيني !! فقال الرجل : أنني يا بني لست لصا ولكنني افعل ذلك من اجل أن أحصل على لقمة عيش ، فقال له محمود : إن ما كنت تفعله شيء بغيض ويعتبر نوع من السرقة حتى إن كنت تفعله من اجل الحصول على الطعام إنها نوع من البلطجة ، فقال الرجل : اقسم لك بالله أنني لست من هؤلاء البلطجيين الذين يعتدون على الآخرين ليسلبونهم أشياءهم ولكنني كنت افعل ذلك وأنا مرغم على ذلك من شظف العيش والضيق الذي أنا فيه فأنا أعانى الجوع والعرى كما تراني ، أنني لم أقدم الأذى لأي إنسان كان فقال له محمود : وما اسم يا عم ؟ فقال أسمى معروف ، فقال محمود أنه أسم جميل اشتق من العمل الحسن ، ثم فكر قليلا وقال : الآن سوف اذهب إلى المدرسة وعندما انصرف أرجوا أن أجدك في هذا المكان فعندي مفاجأة لك ، وعندما أعلن الجرس انتهاء حصص اليوم بادر محمود بالانصراف من المدرسة ولم يستقل الحافلة كما تعود كل يوم بل اتجه إلى المكان الذي تواعد فيه مع عم معروف ، فوجده جالسا ينتظره وبادره القول : يا عم معروف هيا بنا إذن إلى بيتنا فوالدتي طبيبة بشرية سوف تقوم بالكشف عليك ولقد أخبرتني منذ فترة أنها تحتاج إلى جنيني يعيد رونق حديقتا إلى ما كانت عليه ، فمنذ فترة غير طويلة رحل الجانينى الذي كان يهتم بحديقتنا بعد أن تخرج ابنه من الجامعة وعادا معا إلى بلدتهما ، وعندما أشرفا على الفيلا قال محمود لعم معروف يمكنك انتظاري فليلا هنا في الحديقة وسوف أعود عما قريب ثم تسلق درجات الفيلا ودخل مسرعا إلى داخلها واخبر والدته بما حدث مع عم معروف فقالت له الأم حسنا ولكن نحن نريد أن نطمئن انه إنسان ذو خلق حتى نجعله يعمل عندنا . وبعد لحظات نادي محمود على عم معروف لمقابلة والدته في مستشفى صغير ملحق بالفيلا فقالت له الأم : لقد قص على محمود حكايتك فأين كنت تعمل وهل معك بطاقة شخصية فقال لها : كنت يا سيدتي أعمل جنينيا لدى أحد الأثرياء ثم ذكر اسمه ، فقالت له : أعتقد أنني قد سمعت عنه ، وهو فعلا رجل عنيف في تعامله مع الآخرين ، ثم اخرج عم معروف من أحد جيوبه الرقم القومي ، فقالت له : حسنا لقد تعارفنا الآن وقامت بالكشف عليه وأعطته بعض الأدوية وقالت له : سوف أتابع بنفسي حالتك الصحية وأنك سوف تتحسن في القريب ولكن داوم على تلك الأدوية ، ثم استطردت حديثها إليه قائلة : انظر يا عم معروف إلى هذه الحديقة لقد تركت منذ فترة بلا عناية ، ارجوا أن نرى بها الورود والأزاهير ثانية ، فقال لها : يا سيدتي سترين ذلك عما قريب ، ثم قالت له : انظر إلى هذا الجانب إن به حجرتين بمنافعهما سوف يكونان خاصة بمعيشتك ، واليك ببعض المال حتى يمكنك أن تشترى الطعام وبعض الملابس الجديدة ، فشكرها ثم انصرف . وبعد عدة أيام من العمل الجاد لاحظ محمود ووالدته وبعض أقاربهم الذين كانوا يأتون لزيارتهم ان الحديقة قد أخضرت أشجارها وشجيراتها وبدت الورود تتفتح بها ثانية ورائحة النباتات العطرية بدت تذكى جوانبها فأعطته أجر ذلك وأفاضت وأصبح عم معروف له صيت في كل الإرجاء ، ويا ترى لمن يعود هذا الفضل ... ربما للفتى محمود الذي شارك مع شباب مصر في أحداث ثورة 25 يناير ، حيث عاد مرة وقال لعم معروف : لقد أتتني فكرة أرجوا أن تعجبك فقال عم معروف وما هي !! فقال محمود أن نشارك معا في إعادة حدائق ميدان التحرير ونحيلها إلى حدائق تمتلئ بالأزاهير كي يصبح لميدان التحرير منظرا رائعا ، فهو المكان الذي شاهد ميلاد الثورة وارتوت أرضه بدم الشهداء ، فوافق على الفور عم معروف ، وهو حتى الآن يذهب كل يوم لكي يعيد لحدائق ميدان التحرير رونقها ويحيلها لى صورة تليق بأشهر ميدان في مصر وعندما سأله أحد الشباب في الميدان لماذا تقوم بهذا العمل يا عم معروف فأجاب مبتسما له وقال : هذا من أجل مصر
***
لم يزل العمل حتى الآن مستمر ويشترك مع محمود وعم معروف كثير من الفتيان والفتيات فى الاهتمام بحدائق ميدان التحرير ولن ينتهي ذلك أبدا .