هذه السطور كتبت على عجل.. في مناخ تختلط فيه الفرحة العارمة، بالنشوة الغامرة، بالأمل الجارف، بالتخوفات المشروعة، والهواجس الخفية، وأحاول هنا تقديم بعض رؤوس الأقلام حول بعض الملامح النفسية في ثورة شعب مصر التي بدأت، ولم تنته، وأدعو الله مع المخلصين من بني وطني أن تستمر حتى تحقق أهدافها وتبلغ مداها
* ثورة ناعمة مفتوحة
هذه ثورة فريدة في نوعها وتركيبها، ثورة بلا قيادة تقليدية، ولا هيكل حزبي أو أيدولوجي صلب، ولا كاريزما شخصية يلتف حولها الناس، ولا نجوم يدور حولهم الشعب، هذه الثورة هي شعبية فعلا، ناعمة/رخوة، مسامية، ومفتوحة، سلمية، مدنية، وهذه الصفات تحتاج إلى فهم واستيعاب عميق، يبدو مركزيا وأساسيا في تطوير ما نتج عنها، أي ما هو قائم حاليا، وجاهز للتطوير، ويمكن لنفس الصفات أن تكون عيوبا، تؤثر على النجاح، ويبدو غياب فقه القوة الناعمة، وإدراك وتصعيد هكذا ثورات، أي كيف تنشأ وتتحرك، يبدو هذا الفقه لازما للتفاعل مع هذا الزخم الذي سمح للملايين بالمشاركة والإبداع والتواجد والفعل، وسمح بدرجة مذهلة من التنوع الخلاق، والتعددية مع الوحدة، كما أفسح المجال للحرب النفسية لتكون أهم ميادين الصراع الثوري منذ 25 يناير، وحتى الآن.
* الحرب النفسية
لعب ويلعب الإعلام بأنواعه دورا خطيرا في هذه الثورة، وما زلنا نرى الإعلام الجماهيري من فضائيات وصحف، وكذلك الإعلام المجتمعي الشعبي، وكافة وسائل الاتصال والتواصل، كيف أن هذه المساحات هي ممتلئة بالشد والجذب بين أنصار الثورة وأعدائها، كما استخدمت وتستخدم الشائعات، والقوالب الفكرية الجاهزة، والمقولات الموجهة، والتلاعب بالعواطف، ومحاولات إعطاء الانطباعات، وخلق الصور الذهنية، وتغيير القناعات، كل هذه الأنماط، إضافة إلى التخويف، والتهديد، وبث الأمل، أو اليأس.. كل هذه الآليات يستخدمها أنصار الثورة وأعداؤها على السواء، بحيث أن معركة الثورة تدور في الأدمغة والمشاعر قبل الواقع وعلى الأرض، بل رآها البعض انتصارا مبدئيا للخيال وقوته، والأمل وطاقته على القديم وتراكماته، وكثير من أعداء الثورة ليسوا سوى ضحايا تضليل معلوماتي، أو تشويش فكري، أو ضغوط نفسية، أو معاشية، أو رعب مرتبط بهواجس قد يكون بعضها معقولا، وبعضها مبنيا على تصورات أو حسابات خاطئة
* نحن في الغرب
أبرزت الأحداث أن صورتنا في الغرب الرسمي والشعبي غير واضحة، وغالبا غير مؤثرة، رغم انتشار المراسلين، وتوالي البث المباشر، لأن الصورة التي يخلقها الإعلام هي ناقصة، ومتحيزة، وأحيانا متناقضة بالضرورة، يمكن القول بأن حضور الجاليات المصرية في الخارج يحتاج إلى كثير انتباه وتطوير، وأن الانفتاح المصري شخصيا ونفسيا على المشهد الغربي يحتاج إلى مراجعات، وأن نظرية المشي "جنب الحيط"، أو المصري الذي يؤثر السلامة، وينعزل عن السياقات والأنشطة العامة في مهجره، أو يتعامل معه بوصفه مجرد ملاذ آمن يعيد فيه إنتاج الوطن الأصلي!!! كل هذه نقاط تحتاج إلى مزيد بحث وعمل، والمقارنة بين التفاعل العالمي مع المشهد اللبناني في حرب تموز 2006، ومشهد ثورة تونس 2011، يؤكد أنه ما يزال أمامنا كمصريين جهد كبير مستحق لكي نكون جزءا فاعلا في المشهد العالمي الذي أثبتت الأحداث أننا نقع في قلبه، كما قال لي صديق باحث أنثربولوجي خلال الأحداث: لم أكن أتصور أن مصر مهمة للعالم، بهذه الدرجة
* الفيسبوك
في شارع القصر العيني، وفي ميدان التحرير قبل تنظيفه كتب البعض على الجدران كلمة واحدة ومعبرة، فيسبوك، وهو ما تحدث عنه الكثيرون بوصف هذا الموقع الاجتماعي كان المطبخ والملتقى ومحيط التواصل، والتحفيز، والحشد والاتفاقات، والمحضن الذي احتضن بذور هذه الثورة المدهشة منذ أن نشأ هذا الموقع، ومنذ أن تواجد عليه المصريون بالملايين، وحين أدركت السلطة البائسة في مصر، متأخرة كعادتها، أهمية هذا الموقع حجبته.. كلنا نعرف القصة، بتفاصيل كثيرة ومهمة، لكن أحدا لم يذكر شيئا لفت نظري من أن التنوع الفاعل، والوحدة مع التعددية، تجاور الأصوات المختلفة مع عدم تضاربها، وغيرها من المعلوم من الفيسبوك بالضرورة، كانت هي نفس ملامح ساحة ميدان التحرير، فما تدرب عليه ملايين الشباب عبر سنوات على الموقع الاجتماعي، وفي الفضاء الإليكتروني، قاموا بإعادة إنتاجه على الأرض، والتحم به الشعب في كرنفالية تدرب عليها آخرون لم يعرفوا الفيسبوك، ولكن عرفوا الموالد، بوصفها نسقا للتجمع الاحتفالي المتوجه لهدف رغم تعدد المراكز والمشاهد فيه، وبدون مبالغة، فإن نوعية الديمقراطية المباشرة التي كان ميدان التحرير مسرحا مذهلا لها.. يمكن، وربما ينبغي أن تكون ملهمة لكل من يحاول فهم وتطوير هذه الثورة
* الدين والثورة
من بين ترديد مقولة أن الدين أفيون الشعوب، وشعارات الإخوان وغيرهم عن الإسلام الذي هو دين ودولة وسياسة ونظام حياة، ظهر الدين محركا ومتحركا، فاعلا ومنفعلا بمنطق جديد في هذه الثورة، تكفلت دماء الشهداء باستعادة المخزون الجهادي والروحي لدى ملايين المسلمين والمسيحيين، وقادت عمائم الأزهر القليلة المتواجدة في الميدان، معركة الصمود المبهر فيما سمي بموقعة الجمل، ولعب الأخوان دورا بارزا في إنجاح وتأمين البقاء في ميدان التحرير دون صخب، ولا شعارات، ولا مزايدة، ولا تهويل لدورهم، أو فرض لرؤاهم أو آرائهم.
الإخوان كانوا جزءا من الحالة، مشاركين في صياغتها، وهامشا على المتن الذي صاغه شيء اسمه الشعب، الشعب المؤمن بالله.. إيمانا عميقا وصل المصريون إلى جوهره حين وقف المسيحيون يحمون المسلمين في صلاتهم، وبعضهم سجد معهم في مواجهة العربات المدرعة في معارك جمعة الغضب، لقد كان الدين مختلفا في تجلياته حين كان مع الثورة، وهكذا يكون في أفكار مثل: لاهوت التحرير وغيرها، وهكذا يكون قوة دافعة تفل الحديد والرصاص بحديد الثبات المعنوي والسمو الروحي، وهي نقاط مستهدفة من أعداء الثورة اليوم لضرب هذه المعاني، لتعود الأديان لاعبة على الفرقة والتفريق، وتنفصل عن الثورة، بل تنقلب ضدها، كما أريد لها دائما.
* البلبلة
عقب تخلي الرئيس السابق تحولت حالة التوحد والتركيز في المطالب إلى نوع من التنوع الطبيعي في الاجتهادات والرؤى والأطروحات، ويرى البعض في هذه الحالة الجديدة نوعا من البلبلة .. حيث تضخ كميات كبيرة من المعلومات، والمبادرات، والشكاوى، والمطالبات، والاكتشافات والتحذيرات، ويحضر النشطاء عددا كبيرا من اللقاءات، وهناك درجة عالية من التشكيك في كل شيء، وفي كل أحد، وغير ذلك من المؤثرات والإشارات التي ترفع الروح المعنوية، ودرجة التحفيز والترقب، والإثارة والانتباه، وهذا كله محمود ومطلوب، شريطة ألا يزيد عن قدرة الإنسان على الاستيعاب، مما يضغط على أعصاب الناس، ويؤدي إلى الإنهاك والتشويش، وفي مقابل المشاعر المتدفقة والمرهقة صعودا وهبوطا، والأفكار المتلاحقة اللاهثة، يحتاج الناس إلى نوع تأمل وبعض استرخاء ذهني، وتحفيز للخيال، واندراج في العمل المباشر المركز، كل في ملف يختاره، بدلا من استمرار التعرض للقيل والقال، دون تدقيق، ولا تحقيق، ولا عمل يستثمر الطاقة والمشاعر التي تملأ كل الناس
* الفهم والتفهيم
ما الذي جرى؟؟ كيف استطاع الناس قهر قهرهم وخوفهم القديم؟؟ ما هي خرائط الواقع الحالي، واختيارات المستقبل القريب؟؟ يبدو أن الجهد المبذول في تأطير المعطيات المتدفقة لتتحول إلى إجابات وبرامج عمل، وخرائط ذهنية وحركية، هذا الجهد يبدو دون المستوى بكثير، ما هي الثورة؟؟ وماذا تعني؟؟ ما هي صفات هذه الثورة المصرية؟؟ كيف نفهم ما جرى؟؟ وكيف نشرحه ونفسره؟؟ كيف ننظم الإرادة الشعبية المنتصرة في مسارات لتستمر ؟؟ وفي حضانات لتنمو أكثر وتتضاعف وتكسب بشرا ومساحات جديدة ؟؟ ما هي معايير النصر والإنجاز؟؟ وما هي برامج الخصوم؟؟ وما هي خبرات الثورات الأخرى؟؟ ونقاط التشابه والاختلاف؟؟ الرد على الشائعات، ودحض الشبهات، وإطلاق الخيال، وتطوير المبادرات.. مساحات ما تزال فارغة، أو تكاد
هذا الشعب المنتصر يحتاج إلى تضميد جراح روحه المتحدية، واستلهام حكمته الجمعية، والوعي بقوة ال نحن التي تألقت وانتصرت، يحتاج إلى من يتعلم منه، ويحاوره، ويتواصل فينقل خبرات أو يرفع كفاءات، ويحتاج إلى فلترة تدفق الكلام، وزخم المؤثرات.. ويحتاج إلى إصغاء لأصوات موحية، ومعالجة حيثما وجد النقص أو الوجع، ومن كان لديه شيء من هذا فليتكلم، وليصمت الآخرون.. اصمتوا يرحمكم الله