عياش

عياش

قصة بقلم : د. فكرى جلال

فى منطقة جبلية وعرة وبين دروب يصعب التنقل فيها عاش " عياش" حياة صعبة وان كنا نريد أن نعرف ذلك الفتى ... فدعونا نتعرف عليه منذ بكورة صبوته الأولى ... ولد عياش فى كنف اسرة ميسورة الحال ، فوالده كان يعمل فى الرعى ويرعى الخراف التي تقتات على الكلأ الذى ينبت على الرمال في الوديان وبين الصخور الجبلية ذلك بعد أن تهطل الامطار وان كان سقوطها في تلك الأماكن لم يكن وفيرا ولكنه كان يساعد على وجود الحياة في هذا المكان.
ولد هذا الصبى وكان يدعى " عياشا " وكان منذ مولده يوجد في وجهه لطعة سوداء يكسوها شعر غزير ، وشب عياش في تلك القرية الجبلية وكان الولدان دائما يبتعدون وينفرون من تواجده بينهم وكان عياش يتعجب من أمرهم ، وكم من مرة قد عاد الى بيته واخبر امه مرارا بان الفتيان لا يحبونه ويفرون منه لذا سألها في تلك المرة وقال لها : لماذا يا أمي يبتعد ولدان القرية منى وانا اقترب منهم وأحب اللعب واللهو معهم ، فقالت له والدته أنك فتى رائع يا عياش ، ولا تلقى لذلك أهمية فربما فى الغد سوف يلعبون معك ، وذات مرة في أحدى الليالي كان الجو صحوا وضوء القمر كان يعتلى أديم السماء وينيرها وبرغم ذلك لم تغمض لعياش عين ولا جفن ، فلقد كان يتمنى ان ياتى الصبح سريعا كي يلتقي بالولدان ويحلم بأنهم سوف يسمحون له بمشاركتهم العابهم ، وفعلا غادرت الظلمة أحضان الجبال فى تلك المنطقة ورحل القمر ، واعتلت الشمس كبد السماء ووهجت بنورها الوضاء ، عندئذ غادر عياش بيته وعند اقرب درب فى القرية التقى لفيفا من الولدان، وكان يعتلى فوق وجه بشر عظيم ، وجرى نحو الولدان بحب واشتياق عظيمين ولكنهم كعادتهم صدوه وابتعدوا عنه ، وانشغلوا عنه فى ألعابهم ولكن وهم يضحكون عليه
عاد الفتى عياش فى ذلك اليوم الى بيته مهموما واراد أن يعرف سبب نفور الولدان منه ، لذا فقد سال والدته ثانية وقال لها : أرجوك ياأمى أن تخبرينى عن السبب الحقيقى من نفور الولدان منى ، واستطرد حديثه بينما انساب دمع سخين وتساقط من عينيه على خديه وقال لها : اننى ياولدتى قد اصبحت صبيا واريد أن اعرف الحقيقة فلقد فكرت كثيرا فى أن اترك قريتنا واصعد الى أعالى تلك الجبال وسوف ابقى هناك وحيدا ، فقالت له والدته : يابنى طالما انك تريد الحقيقة فسوف اخبرك بها ... فنظر الى تعبيرات وجهها وكان بعينه يحدثها ولا ينطق ببنت شفة بل صمت تماما ، كان يريد منها أن تكشف له تلك الحقيقة سريعا حتى يستريح قلبه المكدود من صد الولدان له ... عندئذ تمالكت والدته نفسها وأخبرته أنها قد ولدته وفى وجهه لطعة سوداء يكسوها شعر غزير، وهذه تجعل الولدان يتجنبوه ولا يحبون اللعب معه ... فخرج عياش من صمته و قال لولدته بصوت خفيض : أمن هذا الشىء الذى فى وجههى يا والدتي هم يبتعدون عنى ، ولا يريدون محادثتى ولا اللعب معي ، وما العيب يا امى فى ذلك ، ألست أنا مخلوق مثلهم ، ولى قلب خفوق ورحيم وأحس وأتألم مثلهم ، اعذرينى يا ولدتى لقد قررت من اليوم أن اصعد الى قمم تلك الجبال وسوف أصحب معى كلبى و بعض العنزات فمن لبنها سوف أقتات ومن الأنهر التي تصب ماؤها على الوادى سوف أروى عطشى وعطشهم ، أرجوك لا تخافى على يا أمي أنني لا أطيق مقاطعتهم لي ... قال عياش تلك الكلمات واستاذن أمه في الرحيل ورحل مع كلبه و بعض العنزات وسلكوا دربا طويلا ثم صعدوا معا إلى قمم الجبال التى تشرف على القرية ... و بني عياش على تلك القمم بيتا صغيرا من أفرع الأشجار وعاش عياش وحيدا ولكنه كان معه صديق وفى وهو كلبه الذى لم يعر يوما ما الى تلك اللطعة التى على وجهه ولم يهتم أبدا بها لأنه كان دائما يصادق فيه عطفه وحسن معاملته له ، كما صادق عياش الأطيار التي كانت تأتى فوق بيته الصغير وتسمعه من عذب اصواتها أجمل الالحان ...
ومرت الأيام والسنون وفى يوم من الايام بينما كان عياش يجلس على تلك القمم العالية سمع أصواتا غريبة وأحس بأن شيئا خطيرا سوف يحدث وبعد لحظات من سماعه تلك الأصوات شاهد بعض الصخور الضخمة وهى تتزحزح أمام عينية وكان الوقت في الصباح الباكر والشمس لم تكن قد اعتلت السماء بعد ، وأهل القرية كانوا نائمين ، أحس عياش بأن عليه إنذارهم على وجه السرعة فربما عما قريب سوف يحدث زلزال عظيم ، فأسرع عياش يهبط من أعلى هذه الجبال بسرعة شديدة ، وكان يتبعه كلبه الوفى وعنزاته ، وعندما صار فى درب القرية أمر كلبه بالنباح ووجد أن عنزاته بعد ان احست بالخطر كانت تصيح هي الأخرى وبدون انقطاع ، فصحت القرية والولدان ونظروا الى عياش وقال احد الولدان له وهو يذدريه بالسباب ، ولكن عياش لم يلقى اهتماما لكلماته و قال للجميع : اليوم أرجوكم الا تنظروا الى تلك اللطعة السوداء التى توجد فى وجهى ، ولكن انظروا الى خوفى عليكم فى داخل قلبى ... نعم أنني قد أزعجتكم بالصياح وقللت نومكم لأن الخطر آت من أعالي تلك الجبال وأنه قادم لا محال عما قريب ، فأرجوكم أن تذهبوا الى مكان بعيد وتتركوا بيوتكم لان زلزالا عظيما سوف يحدث عما قريب لقد رايت القمم بالجبل تتحرك بعيدا عن بعضها منذ لحظات ... فضحك بعض الولدان ، ولكن أحد حكماء القرية قال له : يا بنى ان ما تقوله حقيقة لقد سمعت وانا نائم تلك الأصوات .. ودعى أهل القرية بالمسير والابتعاد عن الجبال فى تلك اللحظة وذهبوا جميعا الى واد بعيد ، وفعلا لم تمر لحظات كثيرة حتى وجدوا أن ماقاله عياش حقيقة فلقد تحركت قمم الجبال وسقطت بعد حركتها صخور ضخمة ذات أوزان هائلة من الأطنان ورؤوا أن أبنية القرية قد اختفت تماما تحت تلك الصخور ...
وبدأ الجميع بعد ان ابتعدوا عن تلك القمم المتحركة فى بناء قرية جديدة امنة ، وساعدهم عياش فى البناء ، ووجد أن ولدان القرية يعملون الى جانبه ، وفى فترات راحتهم كانوا ياتون اليه كى يشاركهم لهوهم ... لقد عرف الجميع بعد ذلك أن عياش ذلك الفتى الانسان لا يعيبه شىء ما فى خلقته .
فيا من تقرا تلك القصة يجب أن تعلم ان أهم شىء نبحث عنه فى الانسان هو عمله وقلبه وحبه وتقديره للاخرين وخوفه عليهم ... اننى قد احببت شخصية هذا الفتى الذى يدعى " عياش " .... فهل أحببتموه مثلى ... إن كان كذلك فإذن هذه الروعة بذاتها .....


تمت